فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويجوز أن يكون المعنى نقلكم من الرقبة إلى الصوم توبة منه أي تخفيفًا منه لأن التخفيف من لوازم التوبة. {وكان الله عليمًا} بأنه لم يقصد ولم يتعمد {حكيمًا} محكم الفعل لا يؤاخذ الإنسان بما لا يختار ولا يتعمد. وعند المعتزلة معنى الحكيم أن أفعاله واقعة على قانون الحكمة وقضية العدالة. ثم لما ذكر حكم القتل الخطأ أردفه ببيان حكم القتل العمد وله أحكام وجوب الدية والكفارة عند غير أبي حنيفة ومالك والقصاص كما مر في البقرة، فلا جر اقتصر هاهنا على بيان ما فيه من الإثم والوعيد، ولا يخفى ما في الآية من التخويف والتهديد فلا جرم تمسكت الوعيدية بها في القطع بخلود الفاسق في النار. وأجيب بوجهين: الأول إجماع المفسرين على أنها نزلت في كافر قتل مؤمنًا. روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن مقيس بن ضبابة وجد أخاه قتيلًا في بني النجار وكان مسلمًا، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسولًا من بني فهر وقال له: ائت بني النجار فاقرأهم السلام وقل لهم: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن ضبابة أن تدفعوه إلى أخيه فيقتص منه، وإن لم تعملوا له قاتلًا أن تدفعوا إليه ديته، فأبلغهم الفهري ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمعًا وطاعة لله ولرسوله، والله ما نعلم له قاتلًا ولكنا نؤدي إليه ديته فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة وبينهما وبين المدينة قريب، فأتى الشيطان مقيسًا فوسوس إليه فقال: أي شيء صنعت تقبل دية أخيك فيكون عليك مسبة؟ اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية. فرمى الفهري بصخرة فشدخ رأسه ثم ركب بعيرًا منها وساق بقتيها راجعًا إلى مكة كافرًا وجعل يقول في شعره:
قتلت به فهرًا وحملت عقله ** سراة بني النجار أرباب فارغ

وأدركت ثأري واضطجعت مؤسدًا ** وكنت إلى الأوثان أول راجع

فنزلت الآية فيه {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا} ثم أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة فأدركه الناس بالسوق فقتلوه. الوجه الثاني أنه يجوز عندنا أن يخلف الله وعيد المؤمنين فإن خلف الوعيد كرم. وضعف الوجه الأول بأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبأن ما قبل الآية وما بعدها في نهي المؤمن عن قتل المؤمن فكذا هذه الآية، وبأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فيجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو مجرد القتل العمد، وبأن الكفر بالاستقلال موجب لهذا الوعيد فأي فائدة في ضم القتل إليه؟ وإذا لا أثر للقتل في هذه الصورة فيكون الكلام جاريًا مجرى قول القائل «إنّ من تنفس لجزاؤه جهنم» وزيف الوجه الثاني بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر.
وإذا جاز الكذب فيه لغرض إظهار الكرم فلم لا يجوز في القصص والأخبار وغير ذلك لغرض المصلحة؟ وفتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في الشرائع. قال القفال: الآية تدل على أنّ جزاء القتل العمد هو ما ذكر. وقد يقول الرجل لغيره: جزاؤك أني أفعل بك كذا إلاّ أن لا أفعله. ولا يخفى ضعف هذا الجواب أيضًا لدلالة سائر الآيات كقوله: {من يعمل سوءًا يجز به} [النساء: 123] {ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} [الزلزلة: 8] على أنه يوصل الجزاء إلى المستحقين، ولأن قوله: {وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا} صريح في أنه تعالى سيفعل به ذلك لاسيما وقد أخبر عنه بلفظ الماضي ليعلم أنه كالواقع. ولتأكد هذه المعاني نقل عن ابن عباس أن توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة. وعن سفيان كان أهل العلم إذا سألوا قالوا: لا توبة له. وحمله الجمهور على التغليظ والتشديد وإلاّ فكل ذنب ممحوّ بالتوبة حتى الشرك. هذا عند المعتزلة، وعند الأشاعرة كل الذنوب يحتمل العفو إلاّ الشرك لقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48].
ثم بالغ في تحريم قتل المؤمن فقال: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا} لتفعل هاهنا بمعنى الاستفعال أي اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوّكوا فيه عن غير روية {ولا تقولوا لما ألقى إليكم السلام} وهو والسلم بمعن الاستسلام، وقيل الإسلام، وقيل التحية يعني سلام أهل الإسلام. قال السدي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على سرية، فلقي مرداس بن نهيك رجلًا من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره وكان يقول لا إله إلاّ الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهرب ثقة بإسلامه، فقتله أسامة واستاق غنمًا كانت معه. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم اخبره فقال: قتلت رجلًا يقول لا إله إلاّ الله. فقال: يا رسول الله إنما تعوذ من القتل. فقال: كيف أنت إذا خاصمك يوم القيامة بلا إله إلاّ الله؟ قال: فما زال يردّدها عليّ أقتلت رجلًا وهو يقول لا إله إلاّ الله حتى تمنيت لو أنّ إسلامي كان يومئذٍ فنزلت الآية. وقد روى الكلبي وقتادة مثل ذلك. وقال الحسن: «إنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا يتطرّفون فلقوا المشركين فهزموهم فشذ منهم رجل فتبعه رجل من المسلمين وأراد متاعه، فلما غشيه بالسنان قال: إني مسلم فكذبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه وكان قليلًا، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قتلته بعد ما زعم أنه مسلم. قال: يا رسول الله إنما قالها متعوّذًا. قال: فهلاّ شققت عن قلبه؟ قال: لم؟ قال: لتنظر أصادق هو أم كاذب. قال: وكنت أعلم ذلك يا رسول الله؟ قال: ويلك إنك لم تكن لتعلم ذلك إنما يبين عنه لسانه. قال: فما لبث القاتل أن مات فدفن فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره. قال: ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أوثلاثًا. فلما رأو أنّ الأرض لا تقبله ألقوا عليه الحجارة».
قال الحسن: إنّ الأرض تجن من هو شر منه ولكن وعظ القوم أن لا يعودوا. وعن سعيد بن جبير قال: خرج المقداد بن الأسود في سرية فإذا هم برجل في غنيمة له فأرادوا قتله فقال: لا إله إلاّ الله. فقتله المقداد. فقيل له: أقتلته وقد قال لا إله إلاّ الله؟ فقال: ودّ لو فرّ بأهله وماله. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فنزلت. قال القفال: ولا منافاة بين هذه الروايات، فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته. وعن أبي عبيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أشرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند نقرة نحره فقال لا إله إلا الله فليرفع عنه الرمح» قال الفقهاء: توبة الزنديق مقبولة لإطلاق هذه الآية. وقال أبو حنيفة: إسلام الصبي يصح لإطلاق الآية. وقال الشافعي: لا يصح وإلاّ لوجب عليه لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذنًا في الكفر وهو يغر جائز، لكنه غير واجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ» وقال أكثر الفقهاء: لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن أو مسلم لا يحكم بإسلامه لأنه يعتقد أن الإيمان والإسلام هو دينه. ولو قال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحصل الجزم بإسلامه لأنّ منهم من يقول إنه رسول العرب وحدهم ومنهم من يقول إنّ محمدًا الذي هو الرسول الحق المنتظر بعد، فلابد أن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل، وأن الدين الذي هو موجود فيما بين المسلمين حق. {تبتغون عرض الحياة الدنيا} قال أبو عبيدة: جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء. يقال: إنّ الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البر والفاجر، سمي عرضًا لأنه عارض زائل غير باقٍ، ومنه العرض لمقابل الجوهر لقلة ثباته كما قيل: العرض لا يبقى زمانين {فعند الله مغانم كثيرة} يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام متعوّذًا به لتأخذوا ماله. وقيل: يريد ما أعدّ لعباده من حسن الثواب في الآخرة {كذلك كنتم من قبل} اختلفوا في وجه الشبه فقال الأكثرون: يريد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام سمعت منكم كلمة الشهادة فحقنت دمائكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم {فمنّ الله عليكم} بالاستقامة والاشتهار بالإيمان وأن صرتم أعلامًا فيه، فعيلكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام ما فعل بكم.
واعترض بأن لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء لأنا آمنا بالاختيار وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف، فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر؟ وعن سعيد بن جبير: المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى إيمانه هذا الراعي عن قومه {فمنّ الله عليكم} بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم. وأورد عليه أن إخفاء الإيمان ما كان عامًا فيهم. وفي التفسير الكبير: المراد أنكم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام فمنّ الله عليكم بتقوية ذلك الميل وتزايد نور الإيمان، فكذا هؤلاء قد حدث لهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم إيمانهم إلى أن تتكامل رغبتهم فيه. وقيل: إنّ قوله: {فمنّ الله عليكم} منقطع عما تقدمه. وذلك أن القوم لما نهاهم عن قتل منّ تكلّم بلا إله إلاّ الله ذكر أن الله من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر، ثم أعاد الأمر بالتبين مبالغة في التحذير، ثم حذر عن الإضمار خلاف الإظهار فقال: {إنّ الله كان بما تعملون خبيرًا} وفيه من الوعيد ما فيه. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)} إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}
يبدأ هذا الدرس بقاعدة التصور الإسلامي الأساسية.. التوحيد وإفراد الله سبحانه بالألوهية؛ ثم يبني على هذه القاعدة أحكامًا شتى في معاملة المجتمع المسلم مع المعسكرات المختلفة؛ بعد التنديد بانقسام الصف المسلم إلى فئتين ورأيين، في معاملة المنافقين- ويبدو أنها جماعة خاصة من المنافقين من غير سكان المدينة- فتقوم هذه الأحكام- وهذا التنديد أيضًا- على قاعدتها الأصيلة، التي يقوم عليها بناء النظام الإسلامي كله.. والتي يتكرر ذكرها كلما اتجه المنهج الرباني إلى تشريع أو توجيه.
هذه الأحكام في معاملة المعسكرات المختلفة، هي طرف من القواعد التي أنشأها الإسلام- لأول مرة في تاريخ البشرية- لتنظيم المعاملات الدولية؛ واتخاذ قواعد أخرى لهذه المعاملات، غير تحكيم السيف، ومنطق القوة، وشريعة الغاب.
إن أوربا بقانونها الدولي- وكل ما تفرع عنه من المنظمات الدولية- لم تبدأ في هذا الاتجاه إلا في القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري). ولم يزل هذا القانون- في جملته- حبرًا على ورق؛ ولم تزل هذه المنظمات- في جملتها- أدوات تختفي وراءها الأطماع الدولية؛ ومنابر للحرب الباردة! وليست أداة لإحقاق حق؛ ولا لتحقيق عدل! وقد دعت إليها منازعات بين دول متكافئة القوى. ولكن كلما اختل هذا التكافؤ لم يعد للقوانين الدولية قيمة، ولا للمنظمات الدولية عمل ذو قيمة!
أما الإسلام- المنهج الرباني للبشر- فقد وضع أسس المعاملات الدولية في القرن السابع الميلادي (الأول الهجري). ووضعها من عند نفسه؛ دون أن تضطره إلى ذلك ملابسات القوى المتكافئة. فهو كان يضعها ليستخدمها هو، وليقيم المجتمع المسلم علاقاته مع المعسكرات الأخرى على أساسها. ليرفع للبشرية راية العدالة، وليقيم لها معالم الطريق. ولو كانت المعسكرات الأخرى- الجاهلية- لا تعامل المجتمع المسلم بتلك المبادئ من جانبها.. فلقد كان الإسلام ينشئ هذه المبادئ إنشاء وللمرة الأولى.
وهذه القواعد للمعاملات الدولية متفرقة في مواضعها ومناسباتها من سور القرآن، وهي تؤلف في مجموعها قانونًا كاملًا للتعامل الدولي. يضم حكمًا لكل حالة من الحالات التي تعرض بين المعسكر الإسلامي والمعسكرات الأخرى: محاربة. ومهادنة. ومحالفة. ومحايدة. ومرتبطة مع محارب، أو مهادن، أو محالف، أو محايد... الخ.
وليس بنا هنا أن نستعرض هذه المبادئ والأحكام (فهي جديرة ببحث مستقل يتولاه متخصص في القانون الدولي). ولكننا نستعرض ما جاء في هذه المجموعة من الآيات في هذا الدرس.. وهي تتعلق بالتعامل مع الطوائف التالية:
أ- المنافقين غير المقيمين في المدينة.
ب- الذين يرتبطون بقوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.
ج- المحايدين الذين تضيق صدورهم بحرب المسلمين أو حرب قومهم كذلك.
وهم على دينهم.
د- المتلاعبين بالعقيدة الذين يظهرون الإسلام إذا قدموا المدينة ويظهرون الكفر إذا عادوا إلى مكة.
هـ- حالات القتل الخطأ بين المسلمين والقتل العمد على اختلاف المواطن والأقوام.